من أرْقَى خِصَال الإنسان، وأكملِ أخلاقِهِ، العطاءُ والكرَمُ، وهذا الذي عليه مدارُ الأخلاقِ، وبه تمام الشمائل والسجايا، وما مُدِحَ أَحدٌ مِدْحَةً أعظَمَ من المَدْحِ بالكرَمِ والجودِ والعطاء، فالباسِطُ يَدَه بالعطاءِ، مالًا وجاهًا، علمًا وعملًا، هو الذي تؤول إليه خِصال الكمالِ، وشمائلُ الجمال، وأخلاقُ الجلال. ولقدْ تمدَّحَ بالكرَمِ كُلُّ كريمٍ، في مَحْفَلِ الكرَمِ، ليُعْلَمَ أن الكرَمَ لا يكونُ إلا لِمَن شَرُفَتْ نَفْسُه، وكذلك تَشَبَّع به كُلُّ خالٍ مِنه، لعلْمِهِ بقيمتِهِ، والكرَمُ كالعِلْمِ، لا يكونانِ إلا في شرائفِ النفوسِ.
إنَّ العطاءَ هو الكرمُ، وإنَّ الكرَمَ هو العطاءُ، فهما لا يَنْفَكَّانَ لو كانا مختلفَيْنِ، فهما لَزِيْمانِ، لأن الكريمَ يبسُطُ ويُعْطِي، والمُعطِيْ كريمٌ، فإنِ اِسْتَقَرَّ ذا فإنَّ مراتِبَ العطاءِ أرْبعةٌ: الأولى: العطاء من عسر لذي عُسر، وهو لإيثار، فيُؤْثِرُ المُعْسِرُ مُعْسِرًا غَيْرَهُ على نَفْسِهِ، وهذا فيه من شرَفِ النفسِ العالي الذي لا يُضاهيه شرَفٌ، وفي هذه الرُّتْبَةِ جاءَ قول الحقِّ تبارك وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. الثانية: العطاء من عسر لذي يسر أو عُسْرٍ، العطاء المقصود بالمدح، وهو الذي كانَ مِن أحوالِ الكُرَماءِ، فلَمْ يَكُنِ الكريمُ العربيُّ القَديمُ ثَرِيًّا، وإنْ كانَ سَرِيًّا، بل الغالِبُ، وهو المشهورُ، أنهم كانوا على قِلٍّ من المالِ، فكانوا يبذلون للضيفِ، أو لابن السبيل، أو للمُحتاج، ما هُوَ لهم وحدَهم، ولو كانوا أغنياءَ، لذا لما افتَخَرَ أحد الخلفاءِ بكرَمِهِ وعطائِه، وقارَنَ نفْسَهُ بأحدِ كُرَماءِ العربِ، قيلَ له: كان كريمًا على فَقْرِهِ، وأنتَ كريمٌ على غِناكَ. الثالثة: العطاء من يسر لذي عسر، وهذه المرتبة فضلأثها وقيمتُها في العطاءِ، ولكنَّها لا تبلُغُ، ولنْ تبلُغَ، مرتبَةَ السابِقَتَيْن، وهي حالُ الخليفةِ المذكورة حالُه في المرتبةِ السابقة، فذو اليُسْرِ لا يبينُ عليه أنه أعطى، لأن العطاءَ ليس البذلَ وحدَه، وإنما منازَعَةُ النفْسِ إبثارَ الغيرِ على المُعطَى، وفي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما سُئَلَ عن أفضلِ الصدَقَةِ وأنفَعِها لصاحبها، والصدَقَةُ عطاءٌ، فقال: “أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى”. الرابعة: العطاء من يسر لذي يسر، وهذا هو العطاءُ الغائب، فكثيرٌ من الناس لا يأتي العطاءُ عندهم إلا في المراتبِ السابقة، وهذا العطاءُ الغئبُ عنِ الناسِ كثيرًا، حتى عنِ العَرَبِ قديمًا، كان حاضرًا في كرَمِ النبي صلى الله عليه وسلم، فهو حينما أعطى أصحابه، ومنهم عمر بن الخطاب، فامتنعَ عمرُ، وكان غير محتاج للمال، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: “إذا ساق اللهُ إليك رزقًا من غيرِ مسألةٍ ولا إشرافِ نفسٍ، فخُذْهُ، فإنَّ اللهَ أعطاكَهُ”، وعمرُ قال هذا لرجلٍ أعطاه عمرُ مالًا، فرفضه لأنه في غِنًى.
وعلى هذا سارَ كبارُ كرماءِ العربِ، فلو أَيْسَرَ مُعْسِرٌ ما قطعوا عنه عطاءً كانوا يُعطونَه إياه، ولهم في هذا معنًى بديع، وهو ما وصَفَه قال عبدالله بن جعفر:”لقد عوَّدَني اللهُ عادَةً، وعوَّدْتُ عِبادَهُ عادَةً، وأخشى إنْ غَيَّرْتُ عادتي أنْ يُغَيِّرَ اللهُ عادَتَه”.
ولا يكونُ العطاءُ هذا إلا مِن غيرِ مُقابِلٍ له، وإنْ كُنْتُ أُراه أفضلَ المراتِب، لأنَّ بواعِثَ العطاءِ في المراتبِ الآنِفَةِ عُسْرُ المُعْطَى، أو غلبَةُ الظنِّ أنه كذلك، ولكنَ عطاءَ المُوْسِرِ لا باعِثَ له إلا شرَفُ النفْسِ، وتجرُّدُ الكرَمِ.