حولياتُ أَبي

أبِيْ، وطوالِعُ الذِّكْرى

 

كالعادةِ في الثاني والعشرينَ من شهرِ شوالٍ أكتُبُ عن أبي، وفي كلِّ كتابةٍ أكتُبُ عنه يتجدَّدُ معها الحنينُ إليه، ويعظُمُ الاشتياقُ إلى رُبوْعِ رُوْحِهِ، قدَّسَ الله روحَه في جناتِ النعيم. وهذه هي الدعوة التي يقولها عند ذكرِ أحدِ الموتى، وما أستعملها إلا مَعه.
هذا اليوم، أو هذا التاريخ، من ليلتِهِ إلى الليلةِ التالية، قبل تلك السنواتِ، يحملُ أحداثَ الرحيلِ، الذي جعلَ في القلوبِ شَرْخًا لا يُسَدُّ، وألَمًا لا علاجَ له، وفراغًا هيهات أن يُمْلأَ، حينما جلستَ إلينا، بعد تلك الليالي الطويلة التي كنتَ فيها طريحًا، فابْتَسَمْتَ، وشاركْتَنا جلستنا، وأَنِسْنَا، وفرِحنَا، بأنَّك قد استَقَمْتَ طيبًا مُعافًى، ثم افترَقْنا ونحن مليؤون بالسرورِ الذي لم يبْقَ إلى تمامِ اليوم، حينما دخلتَ المشفى وقد رأيتَ أخواتَك قد زُرْنَك، زارتك أرواحُهنَّ، وكُنَّ بانتظارك، وكنَّا ساعينَ في منْعِكَ، نُريدُ صِحَّتك لتكونَ معَنا، ويريدونَك معهم لأنَّ الله أراد، والروحُ غلَّابَةُ الجَسَدِ، وأمرُ اللهِ تعالى فوقَ كلِّ شيءٍ، إلى لحظةِ الوفاةِ، حينما أعلنَ الطبيبُ أنَّ سُليمانَ بنَ عبدِاللهِ العُتَيِّق قد مات، وكنَّا نرْقُبُ الوقتَ، وكان في التاسعةِ والنصْفِ، وكأنَّه الليلة، هذا ما نسْتَحْضِرُه كلَّ عامٍ، في هذا التاريخ.
إنَّ الآباءِ أمانُ الأبناء، وهم مدارسُهم، وهم الحياةُ لهم، فمهما يكن الأبناءُ فهم عند الآباءِ ليسوا إلا صِغارًا، سواءً كانوا أحياءً أو أمواتًا، لأنَّنا لم نرَ الحياةَ إلا من خلالهم، ولم نعرفْ معنى الحياة إلا بطريقهم، حيث عاشوها كما كانت لهم، وحيثُ تيسرت لهم أمورهم وأحوالها، وإن كانتْ ليست بالتي نريدها، لِقِصَرِ إدراكنا حينَ كانوا، وبعدما يَبِيْنون نكون مُدرِكِيْنَ أنهم كانوا يرون بعينٍ مليئة بالحبِّ، مليئةً بالحنانِ، مليئةً بكلِّ معاني الحياةِ التي أدْرَكوها. كثيرًا ما نرى الآباءَ من خلالِنا نحنُ، فنُقَصِّرُ معهم، وهم ينظرون إلينا من خلالهم هم، فيتعاملون معَنا بمعانيْ الكمالِ والإكبارِ.
حينما أتذكَّرُ أبي فإنني أتذكَّرُ أمورًا كثيرةً، أتذكرُ المجالسِ التيْ خلَتْ منه، والفضاءَ الذي افتقدَ صوتَه، والطريقَ الذي يَعْبُرُه للمسجدِ، ونحنحته وهو داخلٌ إلى البيتِ، وهيئتَه جالسًا، وصمتَه الذي وراءَه ملايين الكلماتِ التي اجتمعَتْ من أوجاعِ الحياة، وزياراتَه، ومِزاحَه، وتلك الحركاتِ اللطيفة التي كلما حاولْنا مُحاكاتَه فيها عُدنا خائبين، فيبتسم.

إنَّ تلك الأشياءُ -أبي-تُذكِّرُنا بك، وغيرُها كثير، فبعض الشوارعِ في الرياضِ تحملُ ذكرى لك، وعندما نزورُ القصيمَ نجدُ هناك الذكرى واقفةً على زوايا الطريق، وكلُّ مكانٍ مررتَ فيه يومًا، بل حتى الليل إذا أقبَلَ بنجومِه وبدْرِهِ نجدُ في سكونِهِ وضوئِها شيئًا من تلك الذكرى، لأنك يومًا من الدهرِ مرَّ بك الليلُ، ونظرتَ لنجومِهِ، وتأمَّلْتَ القمرَ، وكُنَّا نُسَمِّيْهِ “الصِّبِيْح”، والشمسُ ونهارُها يحملانِ من الذكرياتِ عنك الكثيرَ، فكلُّ شيءٍ يُذكِّرُنا بك.
حينما يبدأُ ليلُ العِيْدِ تكون ذكراكَ عيدنا، وقبلَها كنتَ فانوسَ إفطارِنا في رمضان، إنَّ كلَّ زمانٍ ومكانٍ وحالٍ يحملُ في طَيَّاتِهِ خبرًا عنك، وشيئًا من أنفاسِ ذكراكَ.
ونحنُ ذكراكَ بيننا، ما زلنا نحمِلُ في أنفسِنا جمِيْعَك، ما زلتَ فينا، تتقلَّبُ روحُك في أنحاءِ كِياننا، عندما نرى أنفسَنا أو بعضنَا نراك، وعندما نتكلمُ نسمعُك، وإذا مَشَيْنا كنتَ أنتَ، جميعُن، أبي، أبناؤكَ وبناتُك، وفي عيونِ أُمِّنَا وميضًا من تلك الذكرى.
سنواتٌ طِوالٌ، عشرونَ، وجازَتْ، وكأنك لم تَغِبْ، لأنَّ المثَل الذي سمعناه من أُمِّنا، أدامها الله”من أَرَّثْ ما مات”، لذلك فأنتَ الحيُّ، فلستَ المَيْتَ، وما ماتَ لك ذِكْرٌ وقد خلَّفْتَ من لم يرفعوا رأسًا إلا بك، وما عاشوا الحياةَ إلا بِظلالِ تربِيَتِك.
أبي، إننا على خيرِ ما يسرُّكَ من أحوالِنا وأمورنا، وإننا واثقونَ أنكَ كذلك، فمن كانَ ضيفًا للهِ تعالى فإنَّه في خيرِ الكرَمِ، وأجملِ الحفاوة، وأنْعِمْ بمن حَظِيَ بضيافةِ اللهِ تعالى.
وإننا على العهدِ الذي أردْتَه منا، بِرًّا بأُمِّنا، جنَّتِنا، واجتماعٍ لِشَمْلِنا، وإلْفًا بَيْنَنا، وذِكرْا لكَ بالثناءِ الحسَنِ والدعواتِ الطيبات، وخيراتٍ من الصالحاتٍ تتهادَى بثوابِها لك.
إننا استودعناكَ الله تعالى، فهو خيرُ حافظٍ لك بمقامِ القُرْبِ لديه، والمنزلةِ عنده، بأن تكونَ في بُحْبُوْحَةِ الرضوان، ورَحْبَةِ اليُمْنِ، في نعيم الفردوسِ العالي، وإننا نستودُعُه تعالى دعواتنا لك، ودعواتنا لأنفسنا أن يُبلِّغَكَ فينا ما يُفْرِحُكَ ويَسُرُّكَ.
اللهمَّ إنَّ أبانا لديك، فأَنْلْهُ منْكَ نَوالًا طيِّبًا، من رضوانِكَ ورحمتِكِ، ومِنَنِكَ ونِعْمَتِك، مُتَبَوِّءَاً من الجنةِ منزلةً في فردوسِها، مُتَنَعِّمًا بعظيمٍ من جودِك الذي خصَصْتَه بها، وقد أحلَلْت عليه، وعلى سائر المسلمين، رضاك، فرَضُوا عنك. آمين

22 شوال 1443 من الهِجرةِ النبويةِ الشريفة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى