طَيْفُ الأبِ خالدٌ
في لحظاتٍ تمرُّ بالإنسانِ تجولُ في ذهنه الكثيرُ من عوالم الحياة، من أحداث الوجود، من أحوالِ الأحوال، من أيِّ شيءٍ، صغُرَ أم كبُر، قلَّ أم كثُرَ، تجعله هذه كلها في سموٍّ و بشاشةٍ، حتى و إن كانت حزينةً أليمةً، إذا كانتْ تتعلَّقُ بشيءٍ له في النفسِ منزلة عظيمة، حتى ليغدو كل شيءٍ يُذكرُ بشيءٍ من ذاك الشيءِ، فيتجدد الفرح الممزوج بالحزن، فرحُ الذكرى و حزن الفقْد.
من أسبوعين و يمرُّ أمامي طيفٌ من الذكريات تتعلَّقُ بالمرحومِ، سيدي الوالدِ السعيدِ، لا تأتي قَصْداً، و إنما عفْواً، لكنها تعتملُ في النفسِ فيحِنُّ القلبُ حنينَه الكبيرُ، أشياءَ كأماكنَ لا تتعلَّقُ به و لكنها تحملُ شيئاً من معناه، و الناسُ معادنُ معانٍ، و المعنى منثورٌ منشورٌ يُدركُه من أدركَ معنى الوجود.
في كافيه، ممسكاً كتابي، أحتسي كوباً من الكوفي، يبدو ذلك الشخص من بعيد، هيئته كهيته، طولاً و عرْضاً، يزولُ الاهتمامُ بالكتاب، و تديمُ العينُ نظرها إلى ذلك المُسِنُّ، دام الموقف قريباً من عشر دقائق، حتى اختفى الرجلُ عن العين نازلاً من السُلَّم، هممتُ بأن أتبعه، لربما هو، لربما جاءَ مختلفاً بعضَ الشيءِ لأنه من عالَم مختلفٍ تماماً، أدركني عقلي فرجعتُ إلى وعيي، و أكملتُ ظاهراً حياتي، و أما القلبُ فقد هام في أودية ذاك الطيف.
لا عليك يا صديقي، لست أنت وحدكَ ذاك الإنسان، كُلُّنا نمرُّ بذلك، هكذا كانت كلماتي لصديقي، و قد باح بكلامه مليئاً بالحُزن، إننا نرى طيفَ الموتى، طيفَ أرواحهم، تراها أرواحنا بعيونها، و على قَدْرِ تعلُّقِ الروحِ بالشيءِ يَكون إدراكها له.
نجلسُ في مجلسٍ تكون الأحاديثُ فيه ليس لها زمام، بساطها أحمديٌّ، حديثٌ هنا و حديثٌ هناك، و في أعطافِ ذلك و تضاعيفه يكون طرَفٌ من حديثِ الأُبُوَّةِ، و عن تعاليم الآباء، أولئك الذين هم حقيقةُ الحياة، و هم المدرسةُ في هذا الوجود، فيُرسل اللسانُ عن القلبِ إلى الأسماعِ ترانيم التعاليم الأَبوية، و لكأنَّ الأمرَ كما قال جان جاك روسو: ” أب واحد خير من عشرة مربين “، إذ تختصرُ تعاليم الآباءِ دروساً أُمَمٍ، غالباً، و ما ليسَ غالباً مُندرِجٌ لقداسةِ الأب.
عالَمُ الراحلينَ عن هذه الحياةِ المرئيةِ هو عالَم الخلود، لِمَ يُسطِّرُ البعضُ حروفاً من الرثاء؟، إنهم في عالَم الخلود و نحن في عالَم الفقد، هم في البقاءِ و نحن في الفناء، هم في الحياةِ و نحن في الموت، ألِهذه الحالِ لا يُدرِكُ الكثيرون أن الراحلينَ هم الخالدون، إنَّ حكايةً حُكِيَتْ أنَّ آخرَ مَنْ رَحلَ خلَّدَ وجودَ قرْنٍ و أُمةً من الناسِ و شَعباً و تاريخاً، فليسَ من يرحَلُ فانياً.
عالَم الآباءِ عالَمٌ من الكونِ عميق المعنى، لفَقْدُ أبٍ أشدُّ من فقدِ مَنْ سواه، و كلُّ ما اتصلَ بالأُبُوَّةِ لاحقٌ بها، إذ الأبُ هو رُكْنُ الإنسان الشديد، فيكون الحالُ كقولِ أبي تمام: إذا ما رأسُ أهلِ البيتِ ولى / بَدا لهمُ مِنَ الناسِ الجَفاءُ.
أيها الأبُ الراحلُ، إنَّ وجوداً بعدَكَ باقٍ و سائرٌ و لكنه ليس خالداً إذ خلوده يغيبُ بجوهرك، يُفقَدُ بفقْدكَ، يُشَوَّه ببقائك في عالَم النزاهةِ و النقاء، فلْيَحْفَل بك كٌُلُّ عالَم أنتَ فيه، و بُوْرِكَتْ أرضٌ أنتَ حياتها.
كنتُ أرْقُبُ صاحباً و قد حكى لي شَجَناً في فقد أبيه، فكانت الأحرفُ مواساةً، ربما، و إن كان لا شيءَ يُسلِّي قلباً فقدَ أباه، و إنَّ بعضَ الشيءِ يَجبُرُ بعضاً، قلا يُجزئُ البعضُ عن الكلِّ، و لا يفي بحقٍّ من حقوقه، و إن للأبِ من ذلك ما يفوقُ الوصفَ مما لا يفي به الحرفُ.