أبي حينما يَكْتُبُ
يَمُرُّ العامُ تِلْوَ العامِ، وما زالتْ ذِكْراكَ تعمُرُ القلوبَ، ومكانُك فارغٌ، ولا يُمكنُ له أن يمْتَلِئَ، في تلك المجالسِ التي نَتَفَيَّأُ ظِلَالَها بين الحِيْنِ وأخيه، والفَيْنةِ والأُخْرى تكون أطرافُ أخبارِكَ عامرةَ المجالِسِ، وغامِرَةَ المُؤَانِسِ، تنتعِشُ أرواحُنا بها، ونَشْتَمُّ شَذَاها، ومِن خِلَالها نراكَ، ونَسْمَعُ حِسَّكَ، ونتخَيَّلُ أنَّك تقولُ فنَسْمَع.
تلك المجالِسُ التي تجْمَعُ بيننا وبين أبناءِ أخواتِكَ وأخيكَ، وأبناءِ بعْضِهم، يُدَاوِلُ البَعْضُ شيئًا من آثارِكَ الباقِيَة، وفي كلِّ عامٍ يَحمِلُ لنا العامُ خَبَرًا عنكَ ولَك، وكأنَّ هاتِيكَ المجالِسُ أَقْسَمَتْ ألا تكونَ إلا عنكَ، ومهما خَرَجْنا عن الحديثِ عنكَ فإنَّ طَرَفًا يجْذِبُنا إليكَ، فَكأنَّ أرواحَنا أسماكٌ وأنْتَ بَحْرُها.
في عامنا ذا زَوَّدَنا أحدُ الأحفادِ بصُوْرَةٍ لمَرْسُولٍ مِنك لأبيه، نُدْرِكُ وَصْلَكَ لِمَنْ لَهم الحَظْوةُ لدَيك، ونَعرِفُ مكنونَ القلبِ لمن نالوا السُكْنَى، ولكنَّ أنْ نعلَمَ بلاغةَ حَرْفِكَ، وبَراعَةِ كَتْبِكَ، فهذا شيءٌ لَمْ يَكُنْ إلا في ذا العامِ، ثُمَّ بَعْدُ –عَرَضًا- وَقَفْتُ على شيءٍ كانَ لكَ فيه خَطٌّ بالقَلَمِ، قلَمِ اللفظِ لا قلَمِ الرَّسْمِ، لكنَّ تلك الأُكْتُوبَة كانتْ عميقَةَ الأَثَرِ، فما كانَ منِّي غير أنْ كَتَبْتُها، وعلَّمْتُ على بليغِ كَلِمِكَ بما اِمتازَ بِهِ عن بقيةِ الكَلامِ. وهذا المكتوبُ أنْبَأَ أنَّ الإنسانَ مهما كانَ بَيِّنًا فإنَّ في حياتِهِ شيءٌ خَافٍ، لا يَبِيْنُ ولا يَظْهَرُ إلا في وَقْتٍ يكونُ مُناسِبًا لظهورِهِ، وهذه المُناسَبَةُ تكونُ لائِقَةً به، ولو بَعْدَ موتِهِ.
عِندَما أُرِيْتُ تلك الرسالةَ دُهِشْتُ لأنني لمْ يخطُرْ بالبالِ أنَّك ممن يَخوضُ بَحْرَ الرسائلِ، والمُراسلاتُ دَيْدَنُ الكُتَّابِ، وفيها مِن أسرار النَّفْسِ ما فِيْها، وهذه الدَّهْشَةُ وَلَّتْ مُدْبِرَةً ولم تُعَقِّبْ عندما تَذكَّرْتُ ما قُلْتَه لي مرَّةً ونحنُ في طريقِنا إلى بُريدَةَ أنَّك كُنْتُ تُسَمِّعُ لبَعْضِ حُفَّاظِ “زادِ المُسْتَقْنِعِ”، يَحْفَظُوْنَ مِنه فيأْتونَك ليُسَمِّعُوا، ولسْتَ بالحافِظِ له، وتذَكَّرْتُ أنَّك تعلَّمْتَ على الشيخِ حَسَنِ الهُوَيْمِلِ، فعَلِمْتُ أنَّ لتلك الرسالة جُذورًا من معَانيَ المَباني في فِكْرِكَ.
مِن بدِيْعِ ما كَتَبْتَ في تِلْكَ الرسالةِ، والتي كانتْ في تاريخِ 25/3/1392 هـ براعَةُ اِسْتِهْلالِكَ بقوْلِكَ: “الحمد لله الذي جعل الأقلام تنوب عن الأقدام“، وهذا جانِبٌ من البلاغَةِ تُعْمَرُ به المُرَاسَلاتُ في التَّرَسُّلاتِ، ثُمَّ أَعْقَبْتَ ذلكَ باعتذارٍ لطيفٍ رقيقٍ، معَ لَومٍ للنَّفْسِ بأسلوبٍ أَشَدَّ لُطْفًا: “يا أخي فنأسف من قلة المراسلة، والدنيا ما مَلْحُوْق لها طَرَف“، وخَتَمْتَ الرسالةَ بطَلَبِ سُرْعَةِ الرَّدِّ، وإنْ كانَ بأسْرَعِ مِنْ بَرْقٍ فذاكَ المُنَى، وهذا فيه من لطِيْفِ المُؤَانَسَةِ ما فِيهِ.
وهذه الرسالةُ أَغْرَتِ الفِكْرَ بالسؤَالِ: هل لها أخواتٌ في خبايا الزوايا؟ ربما يكون ذلك، ولعلَّ قارئًا يَقْرَأُ هذه الأسطُرَ، وعِنْدَهُ شيءٌ، فيَجُوْدُ بِهِ، ولا يُقَصِّرُ الكريمُ، ولا يُقْصِرُ عنْ كَرَمٍ.
رحِمَ اللهُ جدَثَكَ الطاهِرَ، وسَقى تُرابَكَ من غَيْثِ رحْمَتِهِ ورِضوانِهِ، وسلامٌ عليكَ مَيِّتًا، كما السلامُ عليكَ حَيًّا، وحِيْنَ تَحْيَا، وجَلَّلَكَ بالرِّضَا، وأقَرَّ لكَ وبِكَ عَيْنًا، وطِبْتَ نَفْسًا ونَفَسًا.
الرياض الميمون. 22 شوال 1445